السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
قال ابن أبي الإصبع: ولم أرَ في الكلام مثل قوله تعالى: (ويا أرض ابلعي ماءك)، فإن فيها عشرين ضرباً من البديع وهي سبع عشرة لفظة وذلك: المناسبة التامة في (ابلعي) و(أقلعي)، والاستعارة فيهما.
والطباق بين الأرض والسماء،
والمجاز في قوله تعالى: (يا سماء) فإن الحقيقة يا مطر السماء،
والإشارة في: (وغيض الماء)، فإنه عبَّر به عن معانٍ كثيرة؛ لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء فينقص الحاصل على وجه الأرض من الماء،
والإرداف في: (واستوت)،
والتمثيل في: (وقضي الأمر)،
والتعليل فإن (غيض الماء) علة الاستواء،
وصحة التقسيم فإنه استوعب فيه أقسام الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء والماء النابع من الأرض وغيض الماء الذي على ظهرها،
والاحتراس في الدعاء، لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك، فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق،
وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى،
والإيجاز فإنه تعالى قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة،
والتسهيم لأن أول الآية يدل على آخرها،
والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، كل لفظة سهلة مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة وعقادة التركيب،
وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه،
والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها مطمئنة في مكانها غير قلقة ولا مستدعاة،
والانسجام وهو: تحدر الكلام بسهوله وعذوبة وسبك مع جزالة لفظ كما ينسجم الماء القليل من الهواء، هذا ما ذكر ابن أبي الإصبع.
ذكرها الإمام السيوطي وقال: فيها أيضاً الاعتراض. الإتقان 2: 259.
......
وقال الشيخ عبد الرحمن حسن الميداني
الإِرداف
شبيه بالتنكيت إلاَّ أنّ الإِرداف يُتْرَكُ فيه اللّفظُ الذي يُدَلُّ به عادة على المعنى، ويُسْتَخْدَمُ تعبيرٌ غيره لتحقيق أغراضٍ فكريَّة ومعاني لا تُؤَدَّى بالتعبير المتروك.
* ومن أمثلة الإِرْداف ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول):
{وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
قالوا: إن عبارة: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} اختيرت بإحكام بدل أن يُقالَ: وهلَكَ من قضى الله إهلاكَهُمْ، ونجا من قضى الله نجاتهم.
وحصل العدول عن التعبير المتروك، واخْتِيرَ رَدِيفٌ لَهُ يُؤَدّي المقصودَ منه مع أغراض أخرى، منها: الإِيجاز في العبارة، والتنبيهُ على أنْ هلاك الهالك ونجاة الناجي كانَ بأمْرِ آمرٍ أمْرُهُ تكْوين، إذا أراد شيئاً فإنّما يقول له: كن فيكون، وكان بقضاء مَنْ لا رادّ لقضائه، ومنها توازن الفقرات في الآية.
وإن عبارة: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} اختيرت بإحكام بَدَل أن يقال: وجَلَستْ على الجودي. أو واسْتَقَرَّتْ على الجودي. لما في التعبير بالاستواء من الإِشعار بأنّها اسْتَقَرّت على جبل الجودي استقرارَ تَمَكُّنِ لا زيغ فيه ولا مَيْلَ إلى جهة الأمام، إو إلى جهة الخلف، أو إلى اليمين، أو إلى الشمال، فالاسْتقرار المستوي لا تفيدُه عبارةٌ أُخرى كما تفيده عبارة: {واسْتَوَت}.
* وذكروا من أمثلته قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) بشأن أهل جنات عَدْن:
{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}.
أتراب: أي: على سِنٍّ واحدة، وهنَّ الحور العين.
جاء التعبير بعبارة {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} للكناية بها عن أنَّهُنَّ غفيفات، وقد عُدِلَ عن عبارة "عفيفات" إلى عبارة أُخْرى تؤدّي معناها لإِضافةِ معنىً آخر لا تؤدّيه العبارة المتروكة، وذلك لأنّ العبارة المختارة تدُلُّ على أنَّهُنَّ مع عِفَّتهنَّ لا تَطْمَحُ أَعْيُهُنَّ إلى غير أزواجِهِنَّ، ولا يَشْتَهين غَيْرَهُمْ.
وهذا المعنى لا تَدُلُّ عليه عبارة "عفيفات" فالعفَّةُ التطبيقيّة قد تكون مصحوبة بتطلُّعٍ وتَشَهٍّ.
وذكروا من أمثلة الإِرداف قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول):
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى}.
جاء في الجملة الأولى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} فاختير فيها التعبير بعبارة: {بِمَا عَمِلُواْ} دون عبارة: بالسُّوأى. مع ما في هذه العبارة من مقابلةٍ عَكْسِيَّة لعبارة {بِالْحُسْنَ} في الجملة الثانية يتحقق بها الطباق، لتأدية معاني لا تؤدّى بعبارة: بالسوأى، أو بالسّيئة، ومن هذه المعاني: أنَّ الجزاء على السيئة يكون بمِثْلِها تماماً، وهذا المعنى تؤدّيه عبارة {بِمَا عَمِلُواْ} أداءً وافياً، أمّا عبارة: بالسُّوأَى، فهي غير صالحة، لأن لفظ السُّوأى مؤنَّثُ أسْوء، والله لا يجزي على السَّيئة بالأسُوَءِ منها. وأمّا عبارة: بالسيئة، فهي عبارة عامّة لا تَدُلُّ على المماثلة، إذ قد تكون سيئة الجزاء أكثر من سيّئة العمل، وهذا أمْرٌ غير مُراد. مع ما في عبارة: {بِمَا عَمِلُواْ} من البُعْدِ عن نسبة فعْلِ السيئة إلى الله ولو كانت على سبيل الجزاء.
من: البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها للشيخ عبد الرحمن الميداني رحمه الله تعالى .
منقوووول